فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين}.
فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين} الهمزات هي جمع هَمْزة.
والهَمْز في اللغة النَّخْس والدفع؛ يقال: هَمزَه ولَمَزه ونَخَسه دفعه.
قال الليث: الهمز كلامٌ من وراء القَفَا، واللَّمْزُ مواجهةً.
والشيطان يوسوس فيهمس في وسواسه في صدر ابن آدم؛ وهو قوله: {أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين} أي نزعات الشياطين الشاغلة عن ذكر الله تعالى.
وفي الحديث: كان يتعوّذ من همز الشيطان ولمزه وهمسه.
قال أبو الهَيْثَم: إذا أسرّ الكلام وأخفاه فذلك الهمس من الكلام.
وسمي الأسد هَمُوسًا؛ لأنه يمشي بخفة فلا يُسمع صوت وطئه.
وقد تقدم في طه.
الثانية: أمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالتعوّذ من الشيطان في همزاته، وهي سَورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه، وكأنها هي التي كانت تصيب المؤمنين مع الكفار فتقع المحادّة فلذلك اتصلت بهذه الآية.
فالنزعات وسورات الغضب الواردةُ من الشيطان هي المتعوَّذ منها في الآية؛ وقد تقدم في آخر الأعراف بيانه مستوفًى، وفي أوّل الكتاب أيضًا.
وروي عن عليّ بن حرب بن محمد الطائي حدّثنا سفيان عن أيوب عن محمد بن حبّان: أن خالدًا كان يؤرّق من الليل؛ فذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يتعوّذ بكلمات الله التّامة من غضب الله وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأنْ يَحْضُرون.
وفي كتاب أبي داود قال عمر: وهَمْزُه المُوتَةُ؛ قال ابن ماجه: المُوتة يعني الجنون.
والتعوذ أيضًا من الجنون وَكِيد.
وفي قراءة أُبَيّ {رَبِّ عائذًا بك من همزات الشياطين وعائذًا بك أن يَحْضُرونِ}؛ أي يكونوا معي في أموري، فإنهم إذا حضروا الإنسان كانوا معدّين للهمز، وإذا لم يكن حضور فلا همز.
وفي صحيح مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الشيطان يحضر أحدَكم عند كلّ شيء من شأنه حتى يحضر عند طعامه فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فلْيُمِط ما كان بها من أذًى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان فإذا فرغ فلْيَلْعَق أصابعه فإنه لا يدري في أيّ طعامه البركة».
قوله تعالى: {حتى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون} عاد الكلام إلى ذكر المشركين؛ أي قالوا: {أئذا متنا} إلى قوله: {إنْ هذا إلا أساطير الأوّلين}.
ثم احتج عليهم وذكّرهم قدرته على كل شيء، ثم قال هم مصرّون على ذلك حتى إذا جاء أحدهم الموت تيقَّن ضلالته وعاين الملائكة التي تقبض روحه؛ كما قال تعالى: {وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة} [الأنفال: 50].
{قَالَ رَبِّ ارجعون} تمنّى الرجعة كي يعمل صالحًا فيما ترك.
وقد يكون القول في النفس؛ قال الله عز وجل: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8].
فأما قوله: {ارْجِعُونِ} وهو مخاطب ربّه عز وجل ولم يقل ارجعني جاء على تعظيم الذكر للمخاطب.
وقيل: استغاثوا بالله عز وجل أوّلًا، فقال قائلهم: ربّ، ثم رجع إلى مخاطبة الملائكة فقال: ارجعون إلى الدنيا؛ قاله ابن جُريج.
وقيل: إن معنى {ارجعون} على جهة التكرير؛ أي ارجعني ارجعني ارجعني وهكذا.
قال المُزَنِيّ في قوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] قال: معناه ألْقِ ألْقِ.
قال الضحاك: المراد به أَهل الشرك.
قلت: ليس سؤال الرجعة مختصًا بالكافر فقد يسألها المؤمن كما في آخر سورة المنافقين على ما يأتي.
ودلّت الآية على أن أحدًا لا يموت حتى يعرف اضطرارًا أهو من أولياء الله أم من أعداء الله، ولولا ذلك لما سأل الرجعة، فيعلموا ذلك قبل نزول الموت وذواقه.
{لعلي أَعْمَلُ صَالِحًا} قال ابن عباس: يريد أشهد أن لا إله إلا الله.
{فِيمَا تَرَكْتُ} أي فيما ضيّعت وتركت العمل به من الطاعات.
وقيل: {فيما تركت} من المال فأتصدق.
و لعل تتضمن ترددًا؛ وهذا الذي يسأل الرجعة قد استيقن العذاب، وهو يوطّن نفسه على العمل الصالح قطعًا من غير تردد.
فالتردد يرجع إما إلى رده إلى الدنيا، وإما إلى التوفيق؛ أي أعمل صالحًا إن وفقتني؛ إذ ليس على قطع من وجود القدرة والتوفيق لو رُدّ إلى الدنيا.
{كَلاَّ} هذه كلمة رَدّ؛ أي ليس الأمر على ما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا، بل هو كلام يطيح في أدراج الريح.
وقيل: لو أجيب إلى ما يطلب لما وَفَّى بما يقول: كما قال: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28].
وقيل: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا} ترجع إلى الله تعالى؛ أي لا خلف في خبره، وقد أخبر أنه لن يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها، وأخبر بأن هذا الكافر لا يؤمن.
وقيل: {إنها كلمة هو قائلها} عند الموت، ولكن لا تنفع.
{وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} أي ومن أمامهم وبين أيديهم.
وقيل: من خلفهم.
{بَرْزَخٌ} أي حاجز بين الموت والبعث؛ قاله الضحاك ومجاهد وابن زيد.
وعن مجاهد أيضًا أن البرزخ هو الحاجز بين الموت والرجوع إلى الدنيا.
وعن الضحاك: هو ما بين الدنيا والآخرة.
ابن عباس: حجاب.
السدي: أجل.
قتادة: بقية الدنيا.
وقيل: الإمهال إلى يوم القيامة؛ حكاه ابن عيسى.
الكلبي: هو الأجل ما بين النفختين، وبينهما أربعون سنة.
وهذه الأقوال متقاربة.
وكلُّ حاجزٍ بين شيئين فهو بَرْزَخ.
قال الجوهري: البرزخ الحاجز بين الشيئين.
والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث؛ فمن مات فقد دخل في البرزخ.
وقال رجل بحضرة الشَّعْبِيّ: رحم الله فلانًا فقد صار من أهل الآخرة! فقال: لم يَصِر من أهل الآخرة، ولكنه صار من أهل البرزخ، وليس من الدنيا ولا من الآخرة.
وأضيف {يوم} إلى {يبعثون} لأنه ظرف زمان، والمراد بالإضافة المصدر. اهـ.

.قال أبو حيان:

ثم أمره تعالى أن يستعيذ من نحسات الشياطين والهمز من الشيطان عبارة عن حثه على العصيان والإغراء به كما يهمز الرائض الدابة لتسرع، ثم أمره أن يستعيذ بسورة الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه.
وقال ابن زيد: همز الشيطان الجنون، والظاهر أنه أمر بالاستعاذة من حضور الشياطين في كل وقت.
وعن ابن عباس عند تلاوة القرآن.
{حتى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الموت} قال الزمخشري: {حتى} يتعلق بيصفون أي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت، والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم مستعينًا بالله على الشيطان أن يستنزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم، أو على قوله وإنهم لكاذبون انتهى.
وقال ابن عطية: {حتى} في هذا الموضع حرف ابتداء، ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف والأول أبين لأن ما بعدها هو المعنى به المقصود ذكره انتهى.
فتوهم ابن عطية أن حتى إذا كانت حرف ابتداء لا تكون غاية وهي إذا كانت حرف ابتداء لا تفارقها الغاية ولم يبين الكلام المحذوف المقدر.
وقال أبو البقاء {حتى} غاية في معنى العطف، والذي يظهر لي أن قبلها جملة محذوفة تكون حتى غاية لها يدل عليها ما قبلها التقدير: فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين ويحضرونهم {حتى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الموت} ونظير حذف هذه الجملة قول الشاعر:
فيًا عجبًا حتى كليب تسبني

أي يسبني الناس حتى كليب، فدل ما بعد حتى على الجملة المحذوفة وفي الآية دل ما قبلها عليها.
وقال القشيري: احتج تعالى عليهم وذكرهم قدرته ثم قال: مصرون على الإنكار {حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت} تيقن ضلالته وعاين الملائكة ندم ولا ينفعه الندم انتهى.
وجمع الضمير في {ارجعون} إما مخاطبة له تعالى مخاطبة الجمع تعظيمًا كما أخبر عن نفسه بنون الجماعة في غير موضع.
وقال الشاعر:
فإن شئت حرمت النساء سواكم

وقال آخر:
ألا فارحموني يا إله محمد

وإما استغاث أولًا بربه وخاطب ملائكة العذاب وقاله ابن جريج.
والظاهر أن الضمير في {أَحَدِهِمْ} راجع إلى الكفار، ومساق الآيات إلى آخرها يدل على ذلك.
وقال ابن عباس: من لم يزك ولم يحج سأل الرجعة.
فقيل له ذلك للكفار فقرأ مستدلًا لقوله: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم} آية سورة المنافقين.
وقال الأوزاعي: هو مانع الزكاة، وجاء الموت أي حضر وعاينه الإنسان فحينئذ يسأل الرجعة إلى الدنيا وفي الحديث: «إذا عاين المؤمن الموت قالت له الملائكة: نرجعك فيقول إلى دار الهموم والأحران بل قدما إلى الله، وأما الكافر فيقول: ارجعون لعلي أعمل صالحًا».
ومعنى {فِيمَا تَرَكْتُ} في الإيمان الذي تركته والمعنى لعلي آتى بما تركته من الإيمان وأعمل فيه صالحًا كما تقول: لعلي أبني على أس، يريد أؤس أسًا وأبني عليه.
وقيل: {فِى مَا تَرَكْتُ} من المال على ما فسره ابن عباس: {كَلاَّ} كلمة ردع عن طلب الرجعة وإنكار واستبعاد.
فقيل: هي من قول الله لهم.
وقيل: من قول من عاين الموت يقول ذلك لنفسه على سبيل التحسر والندم، ومعنى {هُوَ قَائِلُهَا} لا يسكت عنها ولا ينزع لاستيلاء الحسرة عليه، أو لا يجد لها جدوى ولا يجاب لما سأل ولا يغاث {وَمِن وَرَائِهِمْ} أي الكفار {بَرْزَخٌ} حاجز بينهم وبين الرجعة إلى وقت البعث.
وفي هذه الجملة اقناط كلي أن لا رجوع إلى الدنيا، وإنما الرجوع إلى الآخرة استعير البرزخ للمدة التي بين موت الإنسان وبعثه. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين}.
أي وساوسِهم المُغريةِ على خلاف ما أُمِرتَ به من المحاسنِ التي من جُملتها دفعُ السَّيئةِ بالحسنةِ وأصلُ الهمزِ النَّخسُ، ومنه مهمازُ الرَّائضِ. شُبِّه حثُّهم للنَّاسِ على المعاصي بهمزِ الرَّائضِ الدَّوابَّ على الإسراعِ أو الوثبِ، والجمعُ للمرَّاتِ أو لتنوُّعِ الوساوسِ أو لتعدُّدِ المضافِ إليه.
{وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ} أُمر عليه السَّلامُ بأنْ يعوذَ به تعالى من حضورِهم بعد ما أُمر بالعوذِ به من همزاتِهم للمبالغة في التَّحذيرِ من مُلابستهم. وإعادةُ الفعلِ مع تكريرِ النِّداءِ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بالمأمورِ به وعرضِ نهايةِ الابتهالِ في الاستدعاءِ، أي أعوذُ بك مِن أنْ يحضرونِي ويحومُوا حولي في حالٍ من الأحوالِ. وتخصيصُ حالِ الصَّلاةِ وقراءةِ القُرآنِ كما رُوي عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما. وحالِ حلولِ الأجلِ كما رُوي عن عكرمةَ رحمه الله لأنَّها أحرى الأحوالِ بالاستعاذةِ منها.
{حتى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الموت} حتَّى هي التي يُبتدأ بها الكلامُ دخلتْ على الجملةِ الشَّرطيَّةِ وهي مع ذلك غايةٌ لما قبلها متعلِّقةٌ بيصفُون وما بينهُما اعتراضٌ مؤكِّدٌ للإغضاءِ بالاستعاذة به تعالى من الشَّياطين أنْ يزلُّوه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن الحِلْمِ ويُغروه على الانتقام لكنْ لا بمعنى أنَّه العاملُ فيه لفساد المعنى، بل بمعنى أنَّه معمولٌ لمحذوفٍ يدلُّ عليه ذلك. وتعلُّقها بكاذبونَ في غاية البُعدِ لفظًا ومعنى، أي يستمرُّون على الوصف المذكورِ حتَّى إذا جاءَ أحدَهم أيَّ أحدٍ كان الموتُ الذي لا مرَدَّ له وظهرتْ له أحوالُ الآخرةِ {قَالَ} تحسُّرًا على ما فَرَّطَ فيه من الإيمانِ والطَّاعةِ {رَبّ ارجعون} أي رُدَّني إلى الدُّنيا. والواوُ لتعظيم المخاطَبِ وقيل: لتكرير قوله ارجعنِي كما قيل في: قِفَا نَبْكِ، ونظائرِه.
{لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا فِيمَا تَرَكْتُ} أي في الإيمان الذي تركتُه لم ينظمه في سلك الرَّجاءِ كسائر الأعمالِ الصَّالحةِ بأنْ يقولَ لعلِّي أُومنُ فأعملَ الخ، لزشعارِ بأنَّه أمرٌ مقرَّرُ الوقوعِ غنيٌّ عن الإخبارِ بوقوعِه قطعًا فضلًا عن كونِه مرجوَّ الوقوعِ أي لعلي أعملُ في الإيمانِ الذي أتى به ألبتةَ عملًا صالحًا وقيل: فيما تركتُه من المالِ أو من الدُّنيا وعنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «إذا عاين المؤمنُ الملائكةَ قالوا: أنرجعك إلى الدُّنيا؟ فيقول: إلى دار الهُموم والأحزانِ بل قُدومًا إلى الله تبارك وتعالى وأمَّا الكافرُ فيقول: أرجعونِي». {كَلاَّ} ردعٌ عن طلب الرَّجعةِ واستبعادٌ لها {أَنَّهَا} أي قوله: ربِّ ارجعون إلخ {كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} لا محالةَ لتسلُّط الحسرة عليه {وَمِن وَرَائِهِمْ} أي أمامَهم والضَّميرُ لأحدِهم والجمعُ باعتبار المعنى لأنَّه في حُكم كلِّهم كما أنَّ الإفرادَ في الضَّمائرِ الأُوَلِ باعتبار اللَّفظِ {بَرْزَخٌ} حائلٌ بينهم وبين الرَّجعةِ {إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} يوم القيامةِ وهو إقناطٌ كُلِّيٌّ عن الرَّجعة إلى الدُّنيا لما عُلم أنَّه لا رجعة يومَ البعثِ إلى الدُّنيا وإنَّما الرَّجعةُ يومئذٍ إلى الحياةِ الأُخرويَّةِ. اهـ.